فصل: ذكر الوحشة بين رجار والأمير علي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ (نسخة منقحة)



.ذكر فتح جبل وسلات وتونس:

في هذه السنة حصر عسكر علي بن يحيى، صاحب إفريقية، مدينة تونس، وبها أحمد بن خراسان، وضيق على من بها، فصالحه على ما أراد.
وفيها فتح أيضاً جبل وسلات بإفريقية، واستولى عليه، وهو جبل منيع، ولم يزل أهله، طول الدهر، يفتكون بالناس، ويقطعون الطريق، فلما استمر ذلك منهم سير إليهم جيشاً، فكان أهل الجبل ينزلون إلى الجيش، ويقاتلون أشد قتال، فعمل قائد الجيش الحيلة في الصعود إلى الجبل من شعب لم يكن أحد يظن أنه يصعد منه، فلما صار في أعلاه، في طائفة من أصحابه، ثار إليه أهل الجبل، فصبر لهم، وقاتلهم فيمن مع أشد قتال، وتتابع الجيش في الصعود إليه، فانهزم أهل الجبل، وكثر القتل فيهم، ومنهم من رمى نفسه فتكسر، ومنهم من أفلت، واحتمى جماعة كثيرة بقصر في الجبل، فلما أحاط بهم الجيش طلبوا أن يرسل إليهم من يصلح حالهم، فأرسل إليهم جماعة من العرب والجند، فثار بهم أولئك بالسلاح، فقتلوا بعضهم، وطلع الباقون إلى أعلى القصر، ونادوا أصحابهم من الجيش، فأتوهم وقاتلوهم: بعضهم من أعلى القصر، وبعضهم من أسفله، فألقى من فيه من أهل الجبل أيديهم، فقتلوا كلهم.

.ذكر الفتنة بطوس:

في هذه السنة، في عاشوراء، كانت فتنة عظيمة بطوس، في مشهد علي بن موسى الرضا عليه السلام.
وسببها: أن علوياً خاصم، في المشهد، يوم عاشوراء، بعض فقهاء طوس، فأدى ذلك إلى مضاربة، وانقطعت الفتنة، ثم استعان كل منهما بحزبه، فثارت فتنة عظيمة حضرها جميع أهل طوس، وأحاطوا بالمشهد وخربوه، وقتلوا من وجدوا، فقتل بينهم جماعة ونهبت أموال جمة، وافترقوا.
وترك أهل المشهد الخطبة أيام الجمعات فيه، فبنى عليه عضد الدين فرامرز بن علي سوراً منيعاً يحتمي به من بالمشهد على من يريده بسوء، وكان بناؤه سنة خمس عشرة وخمسمائة.

.ذكر عدة حوادث:

في هذه السنة وقعت النار في الحظائر المجاورة للمدرسة النظامية ببغداد، فاحترقت الأخشاب التي بها، واتصل الحريق إلى درب السلسلة، وتطاير الشرر إلى باب المراتب، فاحترقت منه عدة دور، واحترقت خزانة كتب النظامية، وسلمت الكتب، لأن الفقهاء لما أحسوا بالنار نقلوها.
وفيها توفي عبد الله بن يحيى بن محمد بن بهلول أبو محمد الأندلسي، السرقسطي، وكان فقيهاً، فاضلاً، ورد العراق نحو سنة خمسمائة، وسار إلى خراسان، فسكن مرو الروذ، فمات بها، وله شعر حسن، فمنه:
ومهفهف يختال في أبراده، ** مرح القضيب اللدن تحت البارح

أبصرت في مرآة فكري خده، ** فحكيت فعل جفونه بجوارحي

ما كنت أحسب أن فعل توهمي ** يقوى تعديه، فيجرح جارحي

لا غرو إن جرح التوهم خده، ** فالسحر يعمل في البعيد النازح

وفيها، في شعبان، توفي أبو القاسم علي بن محمد بن أحمد بن بيان الرزاز، ومولده في صفر سنة ثلاث عشرة وأربعمائة، وهو آخر من حدث عن أبي الحسن بن مخلد، وأبي القاسم بن بشران.
وفيها توفي أبو بكر محمد بن منصور بن محمد بن عبد الجبار السمعاني، رئيس الشافعية، بمرو، ومولده سنة ست وأربعين وأربعمائة، وسمع الحديث الكثير وصنف فيه، وله فيه أمال حسنة، وتكلم على الحديث، فأحسن ما شاء.
وفيها توفي محفوظ بن أحمد بن الحسن الكلوذاني أبو الخطاب الفقيه الحنبلي، ومولده سنة اثنتين وثلاثين وأربعمائة، وتفقه على أبي يعلى بن الفراء. ثم دخلت:

.سنة إحدى عشرة وخمسمائة:

.ذكر وفاة السلطان محمد وملك ابنه محمود:

في هذه السنة، في الرابع والعشرين من ذي الحجة، توفي السلطان محمد ابن ملكشاه بن ألب أرسلان، وكان ابتداء مرضه في شعبان، وانقطع عن الركوب، وتزايد مرضه، ودام، وأرجف عليه بالموت، فلما كان يوم عيد النحر حضر السلطان، وحضر ولده السلطان محمود على السماط، فنهبه الناس، ثم أذن لهم فدخلوا إلى السلطان محمد، وقد تكلف القعود لهم، وبين يديه سماط كبير، فأكلوا وخرجوا. فلما انتصف ذو الحجة أيس من نفسه، فأحضر ولده محموداً، وقبله، وبكى كل واحد منهما، وأمره أن يخرج ويجلس على تخت السلطنة، وينظر في أمور الناس، وعمره إذ ذاك قد زاد على أربع عشرة سنة، فقال لوالده: إنه يوم غير مبارك، يعني من طريق النجوم، فقال: صدقت، ولكن على أبيك، وأما عليك فمبارك بالسلطنة. فخرج وجلس على التخت بالتاج والسوارين.
وفي يوم الخميس الرابع والعشرين أحضر الأمراء وأعلموا بوفاته، وقرئت وصيته إلى ولده محمود يأمره بالعدل والإحسان، وفي الجمعة الخامس والعشرين منه خطب لمحمود بالسلطنة.
وكان مولد السلطان محمود ثامن عشر شعبان من سنة أربع وسبعين وأربعمائة، وكان عمره سبعاً وثلاثين سنة وأربعة أشهر وستة أيام، وأول ما دعي له بالسلطنة، ببغداد، في ذي الحجة سنة اثنتين وتسعين، وقطعت خطبته عدة دفعات على ما ذكرناه، ولقي من المشاق والأخطار ما لا حد له، فلما توفي أخوه بركيارق صفت له السلطنة، عظمت هيبته، وكثرت جيوشه وأمواله، وكان اجتمع الناس عليه اثنتي عشرة سنة وستة أشهر.

.ذكر بعض سيرته:

كان عادلاً، حسن السيرة، شجاعاً، فمن عدله أنه اشترى مماليك من بعض التجار، وأحالهم بالثمن على عامل خوزستان، فأعطاهم البعض، ومطل بالباقي، فحضروا مجلس الحكم، وأخذوا معهم غلمان القاضي، فلما رآهم السلطان قال لحاجبه: انظر ما حال هؤلاء، فسألهم عن حالهم، فقالوا: لنا خصم يحضر معنا مجلس الحكم، فقال: من هو؟ قالوا: السلطان، وذكروا قصتهم، فأعلمه ذلك، فاشتد عليه وأكره، وأمر بإحضار العامل، وأمره بإيصال أموالهم، والجعل الثقيل، ونكل به حتى يمتنع غيره عن مثل فعله، ثم إنه كان يقول بعد ذلك: لقد ندمت ندماً عظيماً حيث لم أحضر معهم مجلس الحكم، فيقتدي بي غيري، ولا يمتنع أحد عن الحضور فيه وأداء الحق.
فمن عدله: أنه كان له خازن يعرف بأبي أحمد القزويني قتله الباطنية، فلما قتل أمر بعرض الخزانة، فعرض عليه فيها درج فيه جوهر كثير نفيس، فقال إن هذا الجوهر عرضه علي، منذ أيام، وهو في ملك أصحابه، وسلمه إلي خادم ليحفظه وينظر من أصحابه فيسلم إليهم، فسأل عنهم، وكانوا تجاراً غرباء، وقد تيقنوا ذهابه وأيسوا منه، فسكتوا، فأحضرهم وسلمه إليهم.
ومن عدله، أنه أطلق المكوس والضرائب في جميع البلاد، ولم يعرف منه فعل قبيح، وعلم الأمراء سيرته، فلم يقدم أحد منهم على الظلم، وكفوا عنه.
ومن محاسن أعماله ما فعله مع الباطنية على ما نذكره.

.ذكر حال الباطنية أيام السلطان محمد:

قد تقدم ذكر ما اعتمده من حصر قلاعهم، ونحن نذكر هاهنا زيادة اهتمامه بأمرهم، فإنه، رحمه الله تعالى، لما علم أن مصالح البلاد والعباد منوطة بمحو آثارهم، وإخراب ديارهم، وملك حصونهم وقلاعهم، جعل قصدهم دأبه.
وكان، في أيامه، المقدم عليهم، ولقيهم بأمرهم الحسن بن الصباح الرازي، صاحب قلعة ألموت، وكانت أيامه قد طالت، وله منذ ملك قلعة ألموت ما يقارب ستاً وعشرين سنة، وكان المجاورون له في أقبح صورة من كثرة غزاته عليهم، وقتله وأسره رجالهم، وسبي نسائهم، فسير إليه السلطان العساكر، على ما ذكرناه، فعادت من غير بلوغ غرض. فلما أعضل داؤه ندب لقتاله الأمير أنوشتكين شيركير، صاحب آبة، وساوة، وغيرهما، فملك منهم عدة قلاع منها قلعة كلام، ملكها في جمادى الأولى سنة خمس وخمسمائة، وكان مقدمها يعرف بعلي بن موسى، فأمنه ومن معه، وسيرهم إلى ألموت، وملك منهم أيضاً قلعة بيرة، وهي على سبعة فراسخ من قزوين، وأمنهم، وسيرهم إلى ألموت أيضاً.
وسار إلى قلعة ألموت فيمن معه من العساكر، وأمده السلطان بعدة من الأمراء، فحصرهم، وكان هو، من بينهم، صاحب القريحة والبصيرة في قتالهم، مع جودة رأي وشجاعة، فبنى عليها مساكن يسكنها هو ومن معه، وعين لكل طائفة من الأمراء أشهراً يقيمونها، فكانوا ينيبون، ويحضرون، وهو ملازم الحصار، وكان السلطان ينقل إليه الميرة، والذخائر، والرجال، فضاق الأمر على الباطنية، وعدمت عندهم الأقوات وغيرها، فلما اشتد عليهم الأمر نزلوا نساءهم وأبناءهم مستأمنين، وسألوا أن يفرج لهم ولرجالهم عن الطريق، ويؤمنوا، فلم يجابوا إلى ذلك، وأعادهم إلى القلعة، قصداً، ليموت الجميع جوعاً.
وكان ابن الصباح يجري لكل رجل منهم، في اليوم، رغيفاً، وثلاث جوزات، فلما بلغ بهم الأمر إلى الحد الذي لا مزيد عليه، بلغهم موت السلطان محمد، فقويت نفوسهم، وطابت قلوبهم، ووصل الخبر إلى العسكر المحاصر لهم بعدهم بيوم، وعزموا على الرحيل، فقال شيركير: إن رحلنا عنهم، وشاع الأمر، نزلوا إلينا، وأخذوا ما أعددناه، من الأقوات والذخائر، والرأي أن نقيم على قلعتهم حتى نفتحها، وإن لم يكن المقام، فلا بد من مقام ثلاثة أيام، حتى ينفد منا ثقلنا وما أعددناه، ونحرق ما نعجز عن حمله لئلا يأخذه العدو.
فلما سمعوا قوله علموا صدقه، فتعاهدوا على الاتفاق والاجتماع، فلما أمسوا رحلوا من غير مشاورة، ولم يبق غير شيركير، ونزل إليه الباطنية من القلعة، فدافعهم وحمى من تخلف من سوقة العسكر وأتباعه، ولحق بالعسكر، فلما فارق القلعة غنم بالباطنية ما تخلف عندهم.

.ذكر حصار قابس والمهدية:

في هذه السنة جهز علي بن يحيى، صاحب إفريقية، أسطولاً في البحر إلى مدينة قابس، وحصرها.
وسبب ذلك أن صاحبها رافع بن مكن الدهماني أنشأ مركباً بساحلها ليحمل التجار في البحر، وكان ذلك آخر أيام الأمير يحيى، فلم ينكر يحيى ذلك، جرياً على عادته في المداراة، فلما ولي علي الأمر، بعد أبيه، أنف من ذلك وقال: لا يكون لأحد من أهل إفريقية أن يناوئني في إجراء المراكب في البحر بالتجار، فلما خاف رافع أن يمنعه علي التجأ إلى اللعين رجار ملك الفرنج بصقلية، واعتضد به، فوعده رجار أن ينصره ويعينه على إجراء مركبه في البحر، وأنفذ في الحال أسطولاً إلى قابس، فاجتازوا بالمهدية، فحينئذ تحقق علي اتفاقهما، وكان يكذبه.
فلما جاز أسطول رجار بالمهدية أخرج علي أسطوله في أثره، فتوافى الجميع إلى قابس، فلما رأى صاحبها أسطول الفرنج والمسلمين لم يخرج مركبه، فعاد أسطول الفرنج، وبقي أسطول علي يحصر رافعاً بقابس مضيقاً عليها.
ثم عادوا إلى المهدية، وتمادى رافع في المخالفة لعلي، وجمع قبائل العرب، وسار بهم، حتى نزل على المهدية محصراً لها، وخادع علياً، وقال: إنني إنما جئت للدخول في الطاعة، وطلب من يسعى في الصلح، وأفعاله تكذب أقواله، فلم يجبه عن ذلك بحرف، وأخرج العساكر، وحملوا على رافع ومن معه حملة منكرة، فألحقوهم بالبيوت، ووصل العسكر إلى البيوت، فلما رأى ذلك النساء صحن، وولولن، فغارت العرب، وعاودت القتال، واشتد حينئذ الأمر إلى المغرب، ثم افترقوا، وقد قتل من عسكر رافع بشر كثير، ولم يقتل من جند علي غير رجل واحد من الرجالة.
ثم خرج عسكر علي مرة أخرى، فاقتتلوا أشد من القتال الأول، وكان الظهور فيه لعسكر علي، فلما رأى رافع أنه لا طاقة له بهم رحل عن المهدية ليلاً إلى القيروان، فمنعه أهلها من دخولها، فقاتلهم أياماً قلائل، ثم دخلها، فأرسل علي إليه عسكراً من المهدية، فحصروه فيها إلى أن خرج عنها، وعاد إلى قابس، ثم إن جماعة من أعيان إفريقية، من العرب وغيرهم، سألوا علياً في الصلح، فامتنع، ثم أجاب إلى ذلك، وتعاهد عليه.

.ذكر الوحشة بين رجار والأمير علي:

كان رجار، صاحب صقلية، بينه وبين الأمير علي، صاحب إفريقية، مودة وكيدة، إلى أن أعان رافعاً كما تقدم قبل، فاستوحش كل منهما من صاحبه، ثم بعد ذلك خاطبه رجار بما لم تجر عادتهم به، فتأكدت الوحشة، فأرسل رجار رسالة فيها خشونة، فاحترز علي منه، وأمر بتجديد الأسطول، وإعداد الأهبة للقاء العدو، وكاتب المرابطين بمراكش في الاجتماع معه على الدخول إلى صقلية، فكف رجار عما كان يعتمده.

.ذكر قتل صاحب حلب واستيلاء إيلغازي عليها:

في هذه السنة قتل لؤلؤ الخادم، وكان قد استولى على قلعة حلب وأعمالها، بعد وفاة الملك رضوان، وولي أتابكية ولده ألب أرسلان، فلما مات أقام بعده في الملك سلطانشاه بن رضوان، وحكم في دولته أكثر من حكمه في دولة أخيه، فلما كانت هذه السنة سار منها إلى قلعة جعبر ليجتمع بالأمير سالم بن مالك صاحبها، فلما كان عند قلعة نادر نزل يريق الماء، فقصده جماعة من أصحابه الأتراك، وصاحوا: أرنب، أرنب! وأوهموا أنهم يتصيدون، ورموه بالنشاب، فقتل، فلما هلك نهبوا خزانته، فخرج إليهم أهل حلب، فاستعادوا ما أخذوه.
وولي أتابكية سلطانشاه بن رضوان شمس الخواص يارو قتاش، فبقي شهراً، وعزلوه، وولي بعده أبو المعالي بن الملحي الدمشقي، ثم عزلوه وصادروه.
وقيل: كان سبب قتل لؤلؤ أنه أراد قتل سلطانشاه، كما قتل أخاه ألب أرسلان قبله، ففطن به أصحاب سلطانشاه، فقتلوه، وقيل كان قتله سنة عشر وخمسمائة، والله أعلم.
ثم إن أهل حلب خافوا من الفرنج، فسلموا البلد إلى نجم الدين إيلغازي، فلما تسلمه لم يجد فيه مالاً، ولا ذخيرة، لأن الخادم كان قد فرق الجميع، وكان الملك رضوان قد جمع فأكثر، فرزقه الله غير أولاده، فلما رأى إيلغازي خلو البلد من الأموال صادر جماعة من الخدم بمال صانع به الفرنج، وهادنهم مدة يسيرة تكون بمقدار مسيره إلى ماردين، وجمع العساكر والعود، لما تمت الهدنة سار إلى ماردين، على هذا العزم، واستخلف بحلب ابنه حسام الدين تمرتاش.

.ذكر عدة حوادث:

في هذه السنة، في رابع عشر، انخسف القمر انخسافاً كلياً.
وفي هذه الليلة هجم الفرنج على ربض حماة من الشام، وقتلوا من أهلها ما يزيد على مائة رجل وعادوا.
وفيها، في يوم عرفة، كانت زلزلة بالعراق، والجزيرة، وكثير من البلاد، وخربت ببغداد دور كثيرة بالجانب الغربي.
وفيها مات أحمد العربي ببغداد، وكان من عباد الله الصالحين، له كرامات، وقبر يزار بها.
وفي هذه السنة، في شوال، توفي أبو علي محمد بن سعد بن إبراهيم بن نبهان الكاتب، وعمره مائة سنة، وكان عالي الإسناد، وروى عن أبي علي بن شاذان وغيره، والحسن بن أحمد بن جعفر أبو عبد الله الشقاق الفرضي، الحاسب، وكان واحد عصره في علم الفرائض والحساب، وسمع الحديث من أبي الحسين بن المهتدي وغيره.
وفيها مات الكزايكس ملك القسطنطينية، وملك بعده ابنه يوحنا، وسلك سيرته.
وفيها مات دوقس أنطاكية، وكفى الله شره. ثم دخلت:

.سنة اثنتي عشرة وخمسمائة:

.ذكر ما فعله السلطان محمود بالعراق وولاية البرسقي شحنكية بغداد:

لما توفي السلطان محمد، وملك بعده ابنه محمود، ودبر دولته الوزير الربيب أبو منصور، أرسل إلى الخليفة المستظهر بالله يطلب أن يخطب له ببغداد، فخطب له في الجمعة ثالث عشر المحرم، وكان شحنة بغداد بهروز.
ثم إن الأمير دبيس بن صدقة كان عند السلطان محمد، مذ قتل والده، على ما ذكرناه، فأحسن إليه، وأقطعه إقطاعاً كثيراً، فلما توفي السلطان محمد خاطب السلطان محموداً في العود إلى بلده الحلة، فأذن له في ذلك، فعاد إليها، فاجتمع عليه خلق كثير من العرب، والأكراد، وغيرهم، وكان آقسنقر البرسقي مقيماً بالرحبة، وهي إقطاعه، وليس بيده من الولايات شيء، فاستخلف عليها ابنه عز الدين مسعود، وسار إلى السلطان محمد، قبل موته، عازماً على مخاطبته في زيادة إقطاعه، فبلغه وفاة السلطان محمد قبل وصوله إلى بغداد.
وسمع مجاهد الدين بهروز بقربه من بغداد، فأرسل إليه يمنعه من دخولها، فسار إلى السلطان محمود، فلقيه توقيع السلطان بولاية شحنكية بغداد، وهو بحلوان، وعزل بهروز.
وكان الأمراء عند السلطان يريدون البرسقي، ويتعصبون له، ويكرهون مجاهد الدين بهروز، ويحسدونه للقرب الذي كان له عند السلطان محمد، وخافوا أن يزداد تقدماً عند السلطان محمود وحكماً. فلما ولي البرسقي شحنكية بغداد هرب بهروز إلى تكريت، وكانت له.
ثم إن السلطان ولى شحنكية بغداد الأمير منكوبرس، وهو من أكابر الأمراء، وقد حكم في دولة السلطان محمود، فلما أعطي الشحنكية سير إليها ربيبه الأمير حسين بن أزبك، أحد الأمراء الأتراك، وهو صاحب أسداباذ، لينوب عنه ببغداد والعراق، وفارق السلطان من باب همذان، واتصل به جماعة الأمراء البكجية وغيرهم.
فلما سمع البرسقي خاطب الخليفة المستظهر بالله ليأمره بالتوقف إلى أن يكاتب السلطان، ويفعل ما يرد به الأمر عليه، فأرسل إليه الخليفة، فأجاب: إن يرسم الخليفة بالعود عدت، وإلا فلا بد من دخول بغداد. فجمع البرسقي أصحابه وسار إليه، فالتقوا واقتتلوا، فقتل أخ لحسين، وانهزم هو ومن معه، وعادوا إلى عسكر السلطان، فكان ذلك في شهر ربيع الأول، قبل وفاة المستظهر بالله بأيام.

.ذكر وفاة المستظهر بالله:

في هذه السنة، سادس عشر ربيع الآخر، توفي المستظهر بالله أبو العباس أحمد بن المقتدي بأمر الله، وكان مرضه التراقي، وكان عمره إحدى وأربعين سنة وستة أشهر وستة أيام، وخلافته أربعاً وعشرين سنة وثلاثة أشهر وأحد عشر يوماً، ووزر له عميد الدولة أبو منصور بن جهير، وسديد الملك أبو المعالي المفضل بن عبد الرزاق الأصبهاني، وزعيم الرؤساء أبو القاسم بن جهير، ومجد الدين أبو المعالي هبة الله بن المطلب، ونظام الدين أبو منصور الحسين بن محمد، وناب عن الوزارة أمين الدولة أبو سعد بن الموصلايا، وقاضي القضاة أبو الحسن علي بن الدامغاني، ومضى، في أيامه، ثلاثة سلاطين خطب لهم بالحضرة، وهم: تاج الدولة تتش بن ألب أرسلان، والسلطان بركيارق، ومحمد ابنا ملكشاه.
ومن غريب الاتفاق أنه لما توفي السلطان ألب أرسلان توفي بعده القائم بأمر الله، ولما توفي السلطان ملكشاه توفي بعده المقتدي بأمر الله، ولما توفي السلطان محمد توفي بعده المستظهر بالله.

.ذكر بعض أخلاقه وسيرته:

كان، رضي الله عنه، لين الجانب، كريم الأخلاق، يحب اصطناع الناس، ويفعل الخير، ويسارع إلى أعمال البر والمثوبات، مشكور المساعي لا يرد مكرمة تطلب منه.
وكان كثير الوثوق بمن يوليه، غير مصغ إلى سعاية ساع، ولا ملتفت إلى قوله، ولم يعرف منه تلون، وانحلال عزم، بأقوال أصحاب الأغراض.
وكانت أيامه أيام سرور للرعية، فكأنها من حسنها أعياد، وكان إذا بلغه ذلك فرح به وسره، وإذا تعرض سلطان أو نائب له لأذى أحد بالغ في إنكار ذلك والزجر عنه.
وكان حسن الحظ، جيد التوقعات، لا يقاربه فيها أحد، يدل على فضل غزير، وعلم واسع، ولما توفي صلى عليه ابنه المسترشد بالله، وكبر أربعاً، ودفن في حجرة له كان يألفها. ومن شعره قوله:
أذاب حر الهوى في القلب ما جمدا ** لما مددت إلى رسم الوداع يدا

وكيف أسلك نهج الاصطبار وقد ** أرى طرائق في مهوى الهوى قددا

قد أخلف الوعد بدر قد شغفت به، ** من بعد ما قد وفى دهري بما وعدا

إن كنت أنقض عهد الحب في خلدي ** من بعد هذا، فلا عاينته أبدا

.ذكر خلافة الإمام المسترشد بالله:

لما توفي المستظهر بالله بويع ولده المسترشد بالله أبو منصور الفضل بن أبي العباس أحمد بن المستظهر بالله، وكان ولي عهد قد خطب له ثلاثاً وعشرين سنة، فبايعه أخواه ابنا المستظهر بالله، وهما أبو عبد الله محمد، وأبو طالب العباس، وعمومته بنو المقتدي بأمر الله، وغيرهم من الأمراء، والقضاة، والأئمة، والأعيان.
وكان المتولي لأخذ البيعة القاضي أبو الحسن الدامغاني، وكان نائباً عن الوزارة، فأقره المسترشد بالله عليها، ولم يأخذ البيعة قاض غير هذا، وأحمد بن أبي داود، فإنه أخذها للواثق بالله، والقاضي أبو علي إسماعيل بن إسحاق، أخذها للمعتضد بالله.
ثم إن المسترشد عزل قاضي القضاة عن نيابة الوزارة، واستوزر أبا شجاع محمد بن الربيب أبي منصور، وزير السلطان محمود، وكان والده خطب في معنى ولده، حتى استوزر، وقبض على صاحب المخزن أبي طاهر يوسف بن أحمد الحزي.

.ذكر هرب الأمير أبي الحسن أخي المسترشد وعوده:

لما اشتغل الناس ببيعة المسترشد بالله، ركب أخوه الأمير أبو الحسن بن المستظهر بالله سفينة، ومعه ثلاثة نفر، وانحدر إلى المدائن، وسار منها إلى دبيس بن صدقة بالحلة، فكرمه دبيس، وعلم منه وفاة المستظهر بالله، وأقام له الإقامات الكثيرة، فلما علم المسترشد بالله خبره أهمه ذلك وأقلقه، وأرسل إلى دبيس يطلب منه إعادته، فأجاب بأنني عبد الخليفة، وواقف عند أمره، ومع هذا، فقد استذم بي، ودخل منزلي، فلا أكرهه على أمر أبداً.
وكان الرسول نقيب النقباء شرف الدين علي بن طراد الزينبي، فقصد الأمير أبا الحسن، وتحدث معه في عوده، وضمن له عن الخليفة كل ما يريده، فأجاب إلى العود، وقال: إنني لم أفارق أخي لشر أريده، وإنما الخوف حملني على مفارقته، فإذا أمنتني قصدته. وتكفل دبيس بإصلاح الحال بنفسه، والمسير معه إلى بغداد، فعاد النقيب وأعلم الخليفة الحال، فأجاب إلى ما طلبه منه.
ثم حدث من أمر البرسقي ودبيس ومنكوبرس ما ذكرناه، فتأخر الحال.
وأقام الأمير أبو الحسن عند دبيس إلى ثاني عشر صفر سنة ثلاث عشرة وخمسمائة، ثم سار عن الحلة إلى واسط، وكثر جمعه وقوي الإرجاف بقوته، وملك مدينة واسط، وخيف جانبه، فتقدم الخليفة المسترشد بالله بالخطبة لولي عهده ولده أبي جعفر المنصور، وعمره حينئذ اثنتا عشرة سنة، فخطب له ثاني ربيع الآخر ببغداد، وكتب إلى البلاد بالخطبة له، وأرسل إلى دبيس بن مزيد في معنى الأمير أبي الحسن، وأنه الآن فارق جواره، ومد يده إلى بلاد الخليفة وما يتعلق به، وأمره بقصده ومعاجلته قبل قوته، فأرسل دبيس العساكر إليه، ففارق واسط، وقد تحير هو وأصحابه، فضلوا الطريق، ووصلت عساكر دبيس، فصادفوهم عند الصلح، فنهبوا أثقاله، وهرب الأكراد من أصحابه، والأتراك، وعاد الباقون إلى دبيس.
وبقي الأمير أبو الحسن في عشرة من أصحابه وهو عطشان، وبينه وبين الماء خمسة فراسخ، وكان الزمان قيظاً، فأيقن بالتلف، وتبعه بدويان، فأراد الهرب منهما، فلم يقدر، فأخذاه، وقد اشتد به العطش، فسقياه، وحملاه إلى دبيس، فسيره إلى بغداد، وحمله إلى الخليفة، بعد أن بذل له عشرين ألف دينار، فحمل إلى الدار العزيزة، وكان بين خروجه عنها وعوده إليها أحد عشر شهراً.
ولما دخل على المسترشد بالله قبل قدمه، وقبله المسترشد، وبكيا، وأنزله داراً حسنة كان هو يسكنها قبل أن يلي الخلافة، وحمل إليه الخلع، والتحف الكثيرة، وطيب نفسه وأمنه.